صبح الإيطالي ستيفانو كوزين مدربا لمنتخب جزر القمر في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتمكن في وقت قصير من زرع روح التنافس في نفوس لاعبيه وغرس ديناميكية حولت الفريق إلى تشكيلة لا يستهان بها في أفريقيا. وسيكتشف عشاق كرة القدم في 21 ديسمبر/كانون الأول المقبل، بمناسبة مباراة افتتاح كأس الأمم الأفريقية 2025 أمام المغرب في الرباط، وجها غير مألوف على الرغم من أن هذا الرجل البشوش درب بمختلف البلدان والقارات، من فلسطين إلى جنوب أفريقيا وإيران، مرورا بإنجلترا. فمن هو ستيفانو الذي لقي الترحيب إينما حط رحاله؟
إن الرجل فصيح اللسان، صريح القول، محسن الكلام، ثري الفكر، ومنفتح على مختلف الثقافات واللغات والأديان. وأسر لنا في المهلة الأولى بأنه كان ربما سيمارس مهنة طيار أو عالم آثار لولا حب السفر، مشيرا إلى أنه لم يتردد في قبول عروض التدريب في دول لا يفكر فيها كثيرون: قبرص، فلسطين، بلغاريا، إيران، إنجلترا، جنوب أفريقيا، السعودية، ليبيا.. إلى أن حط الرحال بجزر القمر، البلد الصغير الواقع في المحيط الهندي، والذي يبلغ عدد سكانه نحو مليون شخص.

فليس لفريق جزر القمر تاريخ يذكر في كرة القدم الأفريقية، إذ لم يشارك سوى مرة واحدة في كأس الأمم القارية، في 2022 بالكاميرون حيث سجل مشوارا بطوليا بعد أن كاد ينهي مغامرة البلد المضيف في ثمن النهائي (1-2). وقال كوزين: "نعم، دربت في كل هذه البلدان لكن، بالنسبة إلي، منتخب جزر القمر أفضل فريق توليت تدريبه حتى الآن".
"لا تسنى أن المسابقة القارية لا تخلو أبدا من المفاجآت"
تمكن المدرب الإيطالي (56 عاما) من قيادة منتخب "سيلاكانث" [نسبة لسمكة أحفورية قديمة معروفة في أرخبيل القمر باسم "الغومبيسة"] إلى انتزاع تأشيرة التأهل لنسخة "كان" المغرب 2025، الخامسة والثلاثين في تاريخ البطولة، في صدارة مجموعته أمام تونس وغامبيا والجارة مدغشقر، وهو ما أدخل الفرحة في قلوب الجماهير المحلية، "في بلد يحب كرة القدم كغيره من البلدان" كما يؤكد كوزين.
ويضيف قائلا: "كرة القدم تسمح لهذا البلد الذي يتكون من ثلاث جزر بتعزيز وحدة شعبه وتماسكه، فالجميع فخور عندما نتغلب على منتخبات قوية مثل غانا أو تونس.
استقبال الأبطال لمدرب جزر القمر، ستيفانو كوزين
وشاءت قرعة "كان 2025" أن يكون منتخب "سيلاكانث" تحت الأضواء مباشرة مع انطلاق البطولة عندما يواجه "أسود الأطلس" في مباراة الافتتاح على ملعب "مولاي عبد الله" في الرباط، في 21 ديسمبر/كانون الأول المقبل. وهذا لا يخيف كوزين، إذ يقول لفرانس24: "سيكون الضغط على منافسنا، فالمغرب بلغ نصف نهائي مونديال قطر 2022 بعد أن تغلب على إسبانيا ثم البرتغال.. ولا تسنى أن المسابقة القارية لا تخلو أبدا من المفاجآت، فما عليك إلا أن تكون جاهزا وفي الموعد".
ولا شك أن كوزين وفريقه سيستفيدان من عامل الأرض، إذ أن زملاء المهاجم مزيان ماوليدا خاضوا العديد من مبارياتهم في التصفيات، سواء القارية أو المونديالية، في المغرب نظرا لافتقاد ملعبهم للمعايير الدولية وعدم اعتماده من قبل الفيفا والكاف. ويشير كوزين أيضا أنه كان يلعب في المملكة لدى إشرافه سلفا على تدريبات منتخب جنوب السودان، للأسباب ذاتها.
وُلد في كندا "عن طريق الصدفة"، وقضى طفولته في فرنسا...
لا ينتهي الحديث مع الرجل البشوش، مواليد 28 أكتوبر/تشرين الأول 1968، ولا ينتهي تسلسل المعلومات ولا تدفق النكت من شخص اعتاد التنقل والسفر من مكان إلى آخر منذ صغره. فقد ولد في كندا "عن طريق الصدفة" كما يقول، من والدين إيطاليين ثم قضى طفولته في فرنسا، كما أنه عاش في إنجلترا أيضا. وبعد أن كان لاعبا متواضعا بفرنسا وسويسرا وجزيرة غوادلوب، تحول ستيفانو كوزين إلى مهنة التدريب، بدءا في بلده الأم إيطاليا قبل أن يسافر لمختلف أرجاء العالم، ولا سيما أفريقيا.
فقد تولى تدريبات منتخب الكاميرون لما دون 20 عاما بين 2003 و2004 ثم اهتم بالتكوين وأكاديمية ليمبي (جنوب غرب الكاميرون) في العام الموالي. وفي عام 2007، تولى منصب المدير الفني في الاتحاد الكونغولي لكرة القدم حيث أشرف على مختلف الفئات.

لكن مسار حياته يدفعه دائما إلى رغبة الاكتشاف، وبالتالي السفر، ما يفسر انتقاله من بلد لآخر ومن قارة لأخرى، وربما كان عنوان أطروحة الليسانس التي فتحت أمامه مجال التدريب ("أن تكون مدربا في الخارج") ينذر مسبقا بأطوار مشوراه الرياضي.
تناول الشاي في مخبئ بغزة مع رئيس حركة حماس
لم يتوقف كوزين عن التنقل. فهناك دائما فرصة تدفعه للذهاب إلى مكان آخر، كما يقول، وتجعله يتكيف مع الوضع الجديد من دون فرض أفكاره ولا شخصيته على غيره. فعلى سبيل المثال، تأقلم مع حالة الفلسطينيين في فلسطين ومع الإيرانيين في إيران، ما أثار في نفسه الرغبة في "دراسة مسألة الإيمان بالله". ويقول: "كنت أدري بأني مؤمن لكني انتبهت إلى الأمر فعليا عندما كنت في فلسطين حيث بدأت أطلع على كل ما يتعلق بالتاريخ والأديان، فقد كنت أدرب في الصباح وأزور الأماكن المقدسة في المساء". ويضيف: "في إيران، كنت أعيش في مدينة مشهد المقدسة، وهذا ما جعلني أفهم الشيعة".
واضطر المدرب الإيطالي خلال مسيرته الثرية إلى حضور مناسبات متنوعة، من حفلات زفاف إلى مراسم دفن، "فإن لم تؤد واجبك لن يقبل بك أحد". والتقى بشخصيات لا تحظى بالإجماع حتى في مجتمعاتها، ومن بينها محمد القذافي، نجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، والذي كان رئيسا لنادي الاتحاد، أو الرئيس السابق لحركة حماس الفلسطينية إسماعيل هنية.
ويروي كوزين: "لعبنا مع نادي أهلي الخليل مباراة في كأس السوبر الفلسطينية في غزة، فاستقبلنا إسماعيل هنية في مخبئه، وكان حينها مصنفا ضمن قائمة الإرهابيين الدوليين للولايات المتحدة. تناولنا الشاي وتبادلنا الحديث عن كرة القدم مدة ساعتين.. فجمال كرة القدم أن يلتقي أشخاص لا علاقة ببعضهم البعض".
فمن يدري، لعل الحلم يتحقق!
يواصل المدرب الإيطالي الحديث عن حياته بشغف وتواضع، ويطرح فلسفته في الحياة أو التدريب بنفس الوضوح والسهولة، وذلك بفضل عقل منفتح منذ الطفولة ورؤية تبدو في متناول الجميع، ترتكز أساسا على التعامل مع الأحداث بسلاسة. ويتسلح بكل هذه المواصفات والمؤهلات للمضي قدما في كتابة صفحات جديدة في تاريخ جزر القمر.
وقد بدأ المهمة فور تعيينه على رأس هذا المنتخب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما واجه أزمة داخلية بين اللاعبين واتحاد اللعبة المحلي، ليتمكن من إخماد "نار الفتنة رويدا، رويدا"، لأن الصعوبات كما يقول "جزء من الحياة".
ونجح في الفوز على الرأس الأخضر 2-1 في أول مباراة له مع الفريق، فجلس مع الجميع واتفقوا على "تطهير الوضع وتحديد مسؤوليات كل فرد لتحقيق التوازن". ونجح في إعادة الثقة بين مكونات المنتخب، ليسير الجميع نحو هدف واحد هو تحقيق الانتصارات على الملعب ويتأهل فريق "سيلاكانث" لكأس الأمم 2025 عن جدارة.
وهو يأمل بتأهل تاريخي إلى كأس العالم 2026، ما سيُعطي ستيفانو كوزين وجها عالميا لم يكن يتخيله أبدا. فمن يدري، لعل الحلم يتحقق!